كمال القيسي … التوسّع المضطرد في أنشاء أنابيب النفط والغاز وأنتشار ممرّاتها حول العالم له علاقة بالتحوّلات الجيوسياسية وأنعكاساتها لذا فان أنشاء أنابيب جديدة عابرة للحدود تخلق دوما قضايا جيوسياسية جديدة مصاحبة ! أحتساب الكلف الجيوسياسية المباشرة والمحتملة عنصر رئيسي مسيطر في موضوعة أنشاء الأنابيب نظرا لأن تغيير مسار الأنبوب أو تكراره في منطقة أخرى بعد أنجازه ودخوله الخدمة يعتبر أمرا غاية في الصعوبة والتعقيد على الأطراف المتعاقدة ! لذا فان عمل أنابيب النفط والغاز تخلق وضعا خاصّا لعلاقة جيوسياسية – أقتصادية متداخلة من أبرز متطلّباتها توفّر الأستقرار في البيئة الجيوسياسية الحاضنة لممرّات الأنابيب ( سياسة الأنابيب Pipeline Politics)! قد تلعب الأنابيب دورا كبيرا في تحقيق الأستقرار الجيوسياسي من خلال توسيع دائرة تجهيز النفط و الغاز كما أنّها تعتبر أداة لحجب الكميّة الناقلة لها عن الوصول الى الأسواق العالمية للطاقة والتأثير غير المباشر على الأسعار العالمية للنفط أو الغاز ! الأنابيب في حقيقة أمرها صورة من صور التعاقد الثنائي والمتعدّد ووسيلة لنقل النفط أو الغاز من دولة تتمتّع بعرض فائض الى دولة / أو دول مستهلكة تعاني عجزا في الطاقة ! أن توجيه وتخصيص فائض الأنتاج لدولة أو مجموعة من الدول بعينها سيؤدّي بالضرورة الى نشوء حالة من التضاد في المحيط الجيوسياسي ! وخير مثال على ذلك شبكة الأنابيب الروسية التي تعتبر من أكبر الأنظمة في العالم تدار من قبل شركة الروسية الوطنية (غازبروم ) وذات أبعاد جيوسياسية متعدّدة نتيجة لطبيعة وأتجاهات ممرّاتها ونهاية مساراتها ! فهي تخترق جمهوريات أوربا الشرقية (التي كانت تابعة للأتحاد السوفييتي آنذاك) لمقابلة أحتياجات تلك الدول وعبور الفائض من الغاز الى أوروبا ! المحيط الجيوسياسي الثاني يشمل دول وسط آسيا الوسطى التي تتّصف بأنّها مناطق مغلقة تصدّر معظم مبيعاتها الخارجية من خلال شبكة الأنابيب الروسية ممّا جعل الدول المجهّزة والمستهلكة تحت الهيمنة الروسية ( بضمنها أوروبا)! الولايات المتحدة الأمريكية تدعم تطلّع دول وسط آسيا المنتجة للطاقة الى تحرير مواردها بعيدا عن المخارج الروسية وتقليص درجة الأعتماد على روسيا بسبب جملة من الأعتبارات الجيوسياسية والمشاكل المحيطة بها ! في ضوء تغيّرات البيئة الجيوسياسية، تبلور توجّه نحو تطوير شبكة أنابيب جديدة لنقل النفط من باكو الى تبليس – جورجيا ومن ثم الى سيحان – تركيا على البحر الأبيض المتوسط (أنبوب BTC ) ! الى جانب ذلك ، أعلن بعض المخطّطين هدفهم بأنشاء أنبوب نابوكو Nabucco ( الأسم مأخوذ من أوبرا للموسيقار فيردي ) الذي يبدأ من باكو على بحر البلطيق مخترقا آسيا – تركيا وعابرا كل من بلغاريا ورومانيا وهنغاريا لينتهي في فينا – النمسا ! لايزال المشروع قيد الدراسة المكثّفة نظرا لعظم حجم الأستثمارات المطلوب توظيفها والمخاطر التي تحيط بممرّات عبوره من الدول غير المستقرة بشكل مؤكّد ! هناك انبوب آخر قيد التخطيط يبدأ من تركمانستان ويعبر أفغانستان وباكستان متّجها الى الهند TAPI)) ! الأنبوب قد يكون بعيدا عن مرحلة التنفيذ فمن غير المعقول أن تجازف تركمانستان بمرور مواردها النفطية عبر بيئة جيوسياسية غير مستقرة وقد تتحوّل الى عدائية ! في بداية عام 2011 بدأت روسيا تفكر في أيجاد أسواق بديلة عن الأسواق الأوروبية فقامت بتطوير أنبوب يربط النفط السايبيري بمنطقة شرق آسيا مستهدفة به أسواق الصين واليابان (ESPO) ! الى جانب هذا الأنبوب تفكر روسيا أيضا بمد أنبوب مشابه لنقل الغاز! أنابيب النفط والغاز من المشاريع العملاقة ذات أبعاد جيوسياسية وأقتصادية ومالية وتكنولوجية معقّدة تتطلّب عقد أتفاقيات من نوع خاص (بروتوكولات) تعكس رؤيا وأرادة وتفاهم مشترك حول مصالح حقيقية متوازنة تأخذ بنظر الأعتبار التطورات المحتملة في المحيط الجيوسياسي وأتّجاهات الطاقة في الأسواق العالمية ! أن تطوير علاقات متينة ومتشابكة سياسيا وأقتصاديا وأجتماعيا بين دولة مصدر التجهيز وبين دولة / أو دول المرور تعتبر الضمانات الحقيقية الوحيدة لأستدامة عمل المشروع في المدى المتوسط والبعيد وعدم غلق الأنبوب أو ألغاءه أو تحويل مساره عند ظهور حالات من الخلاف السياسي أو المالي أو ظهور تهديدات أمنية تجعل من الأنبوب أستثمارا عاطلا لفترة طويلة من الزمن !

أكثر...