طقوس الأثم ..رؤية من الداخل للحظة انهيار تم نشره على وكالة الصحافة المستقلة - اخبار العراق.

نزار عبد الغفار السامرائي كثيرا ما تدفع الأحداث الكبيرة الى إنتاج رؤى تستنبط الواقع الذي يغرقنا بطوفان من الأسئلة التي تبحث عن إجابات .. وحتى نشارك الآخرين الرؤى التي نجد فيها بعض الإجابة نحيلها الى صور لغوية تتضمنها ما ننتجه من أعمال شعرية وسردية وفكرية ، في محاولة لتبادل الخطابات مع الآخر / المتلقي الذي تقع بيد يديه هذه الأعمال. يعد الاحتلال الأمريكي للعراق علامة زمنية فارقة لحدث كبير يؤرخ لتحول شامل في جوانب كبيرة ، لاسيما وان الغزو الأمريكي لم يخلف احتلالا شاملا فقط بل عمل على رفع الغطاء عن الكثير من الممارسات التي كنا نتعامل معها كطقوس يومية دون النظر اليها من الداخل ، ربما لأننا اعتدنا عليها ، وربما لأننا لم نكن نعي جيدا ما يحدث حتى اذا ما أزيح الغطاء انكشفت الآثام وبان العري الذي كنا عليه . هكذا يمكننا ان نقرأ رواية منذر عبد الحر (طقوس الأثم ) انطلاقا من صفحاتها الأخيرة التي تختصر لنا الخطاب الذي تتضمنه ابتداء من العنوان إذ يقول الراوي “….هو الذي وقف مع جابر المعتوه ،ابن نوال وخطيئتها الناطقة، وصارا ينبهان الناس على جسامة ما يفعلون، ولم يحصلا على رد فعل سوى الإصرار على ارتكاب الإثم ،الذي ولد آثاما عصفت ببلاد، سرعان ما تفتت وغدت خرابا صعد منه غبار أعمى العيون وأخرس الألسن،وغلف الأفئدة بالغلظة”/ص210. اذا ينطلق خطاب الرواية من رؤية الكاتب بأن الآثام التي كنا نرتكبها كانت تدفعنا للوصول الى الخراب الذي وضعنا مباشرة أمام حقيقة ما نحن عليه مع صرخة (جابر) المجنون الذي ابتدأت أحداث الرواية بها ، لتتشعب وتتنقل بنا في عملية تسليط ضوء على طقوس آثمة كانت تمارسها شخصيات الرواية المختلفة لتضع بصماتها على حيوات مختلفة تظهر للمجتمع بشكل آخر غير ما هي عليه في الحقيقة كما هو (حازم الوافي)الذي يدفع بزوجته لأحضان الآخرين من اجل إخفاء عجزه. لقد أراد الكاتب أن يوثق لمرحلة عبر مشاهدات لشخصيات يتعامل معها بشكل يومي في محلة سكنه او عمله ، او حتى في الشارع ، لكنه في النهاية لم يجد إلا ان يضع الشخصية المحورية (رشيد) في موقف العاجز وهو ينظر الى تمثال الرصافي ” وكأنه يدير ظهره للنهر ويحاول النزول من عليائه والهرب من مواجهة الناس”. فالناس الذين تكشفت طقوسهم اليومية وبانت كما لم تظهر لـ(رشيد ) من قبل ، وصلوا الى نهايات كانت نتيجة حتمية لتلك الطقوس التي اعتادوا ممارستها ، وانكشفت في النهاية مع انزياح الأغلفة التي كانوا يتسترون بها في حياتهم الاجتماعية مع انهيار البنية الاجتماعية للبلد . فـ(رواء) الشخصية الايجابية في الرواية لم تجد الا العودة الى عزلتها وحزنها بعد ان فجعت بمقتل صديقتها ونجت هي بمصادفة غريبة او (معجزة) كما يصفها الكاتب من موت أكيد ” لأنها لو رافقت صديقتها كالمعتاد في كل مرة ،لماتت معها”. و(ناصر) الذي لم يتوان عن اقامة علاقة آثمة مع زوجة صديقه اصبح في قبضة الامريكان ،فيما قررت الزوجة ترك كل شيء والهروب الى خارج البلد بعد ان أحالها زوجها العنين الى عاهرة مستعدة للنوم في أحضان أي من أصدقائه ، فيما لم يجد الزوج (حازم) بدا من الانتحار فالقى بنفسه في النهر. وجابر المعتوه يتم العثور عليه جثة هامدة في إحدى السواقي فيما تهرب (نوال) الذي ينظر اليها اهل المحلة على إنها امرأة مبتذلة لتعيش في مكان آخر بعيدا عن بغداد بعد ان تعرضت لعملية اختطاف واغتصاب جماعي.نهايات حزينة ، ربما كانت طبيعية في ظل ما كان يجري ، وما آلت اليه الأمور بعد ان بدأت الدبابات الأمريكية تجوب الشوارع وتترك الأمور في حالة من الانفلات الواسع الذي لا يمكن السيطرة عليه فقد اقتحم المشهد ووضع بصماته على كل بيت وعائلة ، إذ الجميع وجدوا أنفسهم أسرى الموقف الجديد الذي عليهم ان يتعاملوا معه بكل جدية رغم عبثيتهم ، فيما انهارت الطقوس القديمة التي اعتادوا عليها لتنهض مكانها طقوس جديدة تتناسب والوضع الجديد . لقد اراد المؤلف ان يوثق لحدث كبير في ايامه الاولى عبر مجموعة من الحوادث (جمع حادثة) المتعددة التي استلها من المجتمع المحيط به ليرسم بالتالي صورة للبلد عبر خطاب مباشر يتمثل في حكاية يحكيها راو عليم يعرف تاريخ الشخصيات والظروف التي جمعتها لتلقي في مكان واحد او كيفية تعرفها ببعض والخيوط التي تجمعها ، لا بل هو يعرف حتى احاسيسها ومشاعرها التي يصفها لنا عبر مشاهد متتابعة تتناول كل شخصية ببعض التفصيل الذي قد يصل الى الملل أحيانا ، ورغم ان العبارات الاعتراضية ربما تطول احيانا فتأخذنا لتفاصيل بعيدا عن مسار الحكاية الا أنها تعود لتصب في مجرى الأحداث مرة اخرى فيبقينا الكاتب في اطار الحكاية الأساسية التي تروي الايام الاولى لاحتلال بغداد من قبل الامريكان ليس على أساس ما يمكن ان يوصف بأدب الحرب او ما شابه ، ولكن بالتوغل الى داخل النفس البشرية للشخصيات التي تمثلت في الرواية لتنتج بالتالي رؤية لواقع مجتمع كان يجتهد في إخفاء ممارساته التي تمتد داخل جسده كخلايا سرطانية قاتلة حتى اذا ما انكشفت راحت تدفع بأصحابها للبحث عن الخلاص الذي ربما لم يجدوه إلا بالانتحار كما فعل حازم او الهرب للبحث عن حياة جديدة بعيدا عن الطقوس اليومية التي اعتادت عليها كما فعلت (نوال) وزوجة حازم ، الاولى بالهروب الى مكان آخر داخل البلد ، والثانية الى خارج الحدود بعيدا جدا ، فيما يبقى المجهول يلف ما تبقى لرشيد ورواء الذين يرضخان هما أيضا للأمر الواقع ويحاولان التصالح مع الواقع الجديد ولكن بسلبية ويأس.يمكننا ان نقول ان (طقوس الإثم) هي رؤية من الداخل التقطتها عين صحفي راح يرصد الأحداث المحيطة به ليوثقها عبر شخوص يمكننا ان نتعرف عليهم في محلة سكننا او عند ذهابنا للعمل او لحظة جلوسنا في المقهى.  

طقوس الأثم ..رؤية من الداخل للحظة انهيار تم نشره على وكالة الصحافة المستقلة - اخبار العراق.



أكثر...