أبو العَتاهِيَة
130 - 211 هـ / 747 - 826 م
إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، العنزي، أبو إسحاق.
شاعر مكثر، سريع الخاطر، في شعره إبداع، يعد من مقدمي المولدين، من طبقة بشار وأبي نواس وأمثالهما. كان يجيد القول في الزهد والمديح وأكثر أنواع الشعر في عصره. ولد ونشأ قرب الكوفة، وسكن بغداد.
كان في بدء أمره يبيع الجرار ثم اتصل بالخلفاء وعلت مكانته عندهم. وهجر الشعر مدة، فبلغ ذلك الخليفة العباسي المهدي، فسجنه ثم أحضره إليه وهدده بالقتل إن لم يقل الشعر، فعاد إلى نظمه، فأطلقه. توفي في بغداد.



نبـوغه :

قال أبو العتاهية عن نفسه : " لو شئت أن أجعل كلامي كله شعرا لفعلت " . ولم يكن أبو العتاهية مغاليا في قوله هذا ، فمن يطالع ما كتب عنه يجد الكثير من الشواهد التي تؤكد على أنه كان شاعرا مطبوعا مجيدا ، جمع بين غزارة المادة وسهولة النظم .
وقد روي عنه أنه : " كان حلو الإنشاد ، مليح الحركات ، شديد الطرب ، أقـدر الناس على وزن الكلام
حتى أنه كان يتكلم بالشعر في جميع حالاته ويخاطب به جميع الناس " .
وسئل يوما : " أتعرف العروض ؟ فقال : أنا أكبر من العروض" .
و دليل صدقه على قوله هذا ، أن له أوزانا لا تدخل في العروض مع حسن نظمها .
وخروجه على العروض يدل على أنه كان يميل إلى التجديد في الشعر ، أن لم يكن أحد مبتكريه ، فقد حرر نفسه من التعقيد بالمعاني والألفاظ والأوزان وأتى بمعان جديدة .. قال عنه المبرد في الكامل : " كان اسماعيل بن القاسم أبو العتاهية حسن الشعر ، قريب المأخذ ، لشعره ديباجة ، ويخرج القول منه لمخرج النفس ، قوة وسهولة واقتدارا " .. وقد أقر معاصرو أبى العتاهية له بالتفوق على عصره بشعره .. حيث ذكر اليزيدي عن الفراء قـال : " دخلت على جعفر بن يحيى فقال : يا أبا زكريا ما تقول فيما أقول ؟
قلت وما تقول ؟ قال : أزعم أن أبا العتاهية اشعر هذا العصر ، فقلت هو والله قولي ، وهو أشعرهم عندي " .
وسئل أبو نواس وسلم الخاسر وغيرهما عن أبي العتاهية فقالوا: "هو أشعر الإنس والجن " .
وقال عنه مصعب بن عبد الله : " هو أشعر الناس ".. وقال عنه إبن الأعرابي : " لم أر شاعرا أطبع ولا أقدر على بيت منه ، وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر " .



بعضا من آراء الشعراء فيه

• قيل أنه أتى الشهرزوري سلما الخاسر وقال له : أنشدني لنفسك . قال : لا ، ولكن أنشدك لأشعر الجن والإنس ، لأبي العتاهية ، ثم أنشده قوله :

سكــن يبقى لـه سكــن ما بهذا يؤذن الزمــن
نحــن فــي دار يخبرنــا ببلاهـا ناطـــق لســـن
دار سوء لم يــدم فـرح لإمرئ فيها ولا حـزن
في سبيـل اللــه أنفسنـا كلنـا بالموت مرتهـــن
كل نفس عنــد ميتتهــا حظها من مالهـا كفـن
إن مال المرء ليس لـه منه إلا ذكـره الحســن

• وقيل لأبي نواس : أنت أشعر الناس ، فقال : أما والشيخ حي فـلا " يعني أبا العتاهية ".
• وقال أيضا : والله ما رأيت أبا العتاهية قط إلا ظننت أنه سماء وانا أرض .
• وقال أبو تمام : لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شاركه فيها أحد ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر وهي :

* النـــــاس فـــــــــــي غفلاتهـــــم ورحــــــى المنيــــــة تطحــــــــن

* ألم تر أن الفقير يرجى له الغنى وأن الغني يخشى عليه من الفقر

* ولمـــــا استقلــــــوا بأثقالهــــــم وقد أزمعـــوا الــــــذي أزمعـــــوا
قرنـــــت التفانـــــي بآثارهــــــــــم واتبعتهـــــــم مقلـــــــة تدمـــــع

* هب الدنيا تصير إليـــك عفــــــوا أليس مصير ذاك إلـــى الـــــزوال

• وقال بشار لأشجع ، وقد سمع شعرا لأبي العتاهية في المهدي : ويحك يا أخا سليم ، أترى الخليفة لم يطر من فراشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي .. ؟
• وقال بشار لأبي العتاهية : أنا والله استحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول :

كم من صديق لي أسارقه البكـاء مـــــــن الحيــاء
فـــــــإذا تأمـــــل لامنـــــي فأقول : ما بي من بكاء
لكــــن ذهبــــت لأرتـــــدي فطرفـــت عينـي بالرداء



روى أن أبا العتاهية كان يسكن الكوفة ، فلما رأى اقتداره على الشعر ، قدم مع إبراهيم الموصلي إلى بغداد ثم افترقا ، ونزل هو الحيرة ، ثم اشتهر ذكره وسمع به الخليفة المهدي فأقدمه إلى بغداد ، فدخل عليه أبو العتاهية وامتدحه ونال جوائزه .
ثم اتصل بالخلفاء من بعده ، وله أخبار مختلفة مع الهادي وهارون الرشيد والأمين والمأمون ، وكلهم كانوا معجبين بأشعاره ، وأثنوا عليه صلاتهم وقدموه على غيره ، لأنه كان إلى جانب نبوغه واقتداره على قول الشعر " حلو الإنشاد ، مليح الحركات ، شديد الطب ، حسن الهيئة والمظهر ، حلو الكلام لينه ".
• ولكنه ما لبث أن عدل عن قول الشعر إلى التصوف ، فترك منادمة الخلفاء ، وتزهد ، وأخذ يذكر الموت وأهواله ، فحبسه الرشيد ثم رضي عنه فأطلقه ، فعاد إلى الشعر ، ولكنه ترك الغزل والهجاء حتى توفي .



الإتّهامات التي وجّهت اليه:

دعوى الالحاد والمروق عن الدين من اكثر الدعاوى لصوقا بالفلاسفة والادباء لاسباب مختلفة، تصح احيانا ويشوبها شيء من الغموض والحسد غالبا، وليس هنا مجال التفصيل في مدى مصداقية مثل هذه الدعاوى التي طالت عددا من الفلاسفة المسلمين كإبن سينا والفارابي والنصير الطوسي، وطالت ايضا عددا من الادباء كبشار بن برد وابي نواس وابي العلاء المعري، بل ولم ينج منها ابو الطيب المتنبي شاعر العربية الكبير،

وكأي شاعر كبير وجهت للرجل في حياته وبعد مماته جملة من التهم المختلفة التي تناسب ظروف العصر الذي عاش فيه، ولعل اشد هذه التهم قسوة وايلاما هو مارماه به المشككون من تهم استهدفت عقيدته الدينية، وهي تهم بنيت على ملاحظات من حياته، واقوال صدرت عنه اشارت اليها مراجع الشاعرة المختلفة دون تحقيق او تعليق سواءا بالتصديق او التكذيب، ويمكن ايجازها في النقولات التالية :-
1-كان حر التفكير وكان اهل عصره ينسبونه القول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمن بالبعث ويحتجون بأن شعره إنما هو في ذكر الموت والفناء دون النشور والمعاد".
2-كان يذهب الى ان المعارف واقعة بقدر الفكر والبحث والاستدلال طباعا ويقول بالوعيد وتحريم المكاسب ويتشيع بمذهب الزيدية والبترية".
3-كان مذهبه القول بالتوحيد وأن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء ثم انه بنى العالم هذه البنية منهما وان العالم حديث التعيين والصفة لا محدث له الا الله وكان يزعم ان الله سيرد كل شيء الى الجوهرين المتضادين قبل ان تفنى الاعيان".
واتهم بانه يكلم القمر، وشهدت امراة بانها راته يفعل ذلك. وكاد حمدويه صاحب الزنادقة يمسكه، ثم برى لما تمت تسوية الامر وقيل انه كان يقنت آنذاك. ومن الادلة التي قدمها ابن عمار قول الشاعر في عتبة:
وكان عتابة من حسنها........دمية قس فتنت قسها
يا رب لو انسيتنيها بما....... في جنة الفردوس لم انسها
ان المليك رآك احسن......... خلقه وراى جمالك
فحذابقدرة نفسه حور......... الجنان على مثالك
فقد قال منصور بن عمار، في التعليق على البيتين الاولين: يتهاون بالجنة ويبتذل ذكرها في شعره بمثل هذا التهاون.
وفي التعليق على البيتين الاخيرين: ايصور الحور على مثال امراة آدمية، واللّه لا يحتاج الى مثال، واشاع ذلك على لسان العامة، فلقي منه البلا.
4-كان ابو العتاهية مذبذبا في مذهبه يعتقد شيئا فإذا سمع طاعنا عليه ترك اعتقاده اياه واخذ غيره".
وعبارات اخرى قيلت عنه ولم يقلها، يجمع بينها التشكيك في عقيدة الشاعر، وكنت اعجب اشد العجب لمثل هذه العبارات التي يتصدر بعضها مقدمة الديوان الذي جمعت فيه زهدياته، ويكذبها الديوان نفسه بما احتواه من شعر يتناقض مع المقولات السابقة.



الرد على الإتهامات


بخلاف ما قيل ويقال عنه ، كان أبو العتاهية مسلما يؤمن بالله وبحدوث العالم ويقول بالبعث والحساب واليوم الآخر ..
يصرح في شعره بالدينونة والحساب ويستشف الكثير من معانيه من الكتاب والسنة .
ومما لا شك فيه أنهم قـد ظلموه أيما ظلم ، ذلك أنه لا يحمل في شعره رسالة جديدة ، ولا يضع مبادئ فلسفية خاصة ، وإنما يضع روح الدين ومبادئه في معان جديدة وقوالب شعرية تدعو إلى احتقار الحياة الدنيا وتعظيم الآخرة

فأما التشكيك في ايمانه بالبعث والاحتجاج بدعوى ان شعره اختص بذكر الموت دون النشور والمعاد فيرده قوله:
لعمرك ما عين الموت في عمـى...... وما عقل ذي عقل عن البعث في ريب
وما زالت الدنيا ترى ظاهرا لها....... شاهـدا منها يدل علـــى غيـب
وقوله:
امامك يا نومــان دار سعادة...... يدوم البقـــاء فيها ودار شقاء
خلقت لإحدى الغايتين فلا تنم..... وكن بين خوف منهما ورجــاء
وذكر البعث والنشور والبرزخ والجنة والنار في شعره اكثر من ان نحصيه، وهو في مجموعه يرد ما اتهم به من انكار للبعث وما تبع هذا الاتهام من تشكيك في العقيدة.

اما تشيعه بمذهب الزيدية والبترية الغالية فتهمة يردها عنه كل من عرف شيئا عن اصول هذين المذهبين في مبحث الامامة خاصة ثم قرأ قوله:
بل اين اهل التقى والانبياء.......... ومن جاءت بفضلهم الايات والسور
اعدد ابا بكر الصديق اولهــم........ وناد من بعد في الفضل ياعمـر
وعد من بعد عثمان ابا حسـن........ فإن فضلهمــا يروى ويدكر

وحياة ابي العتاهية في بلاط المهدي والرشيد تنفي عنه تهمة الزندقة والالحاد او المجاهرة بذلك على اقل تقدير، لما عرف عن هذين الخليفتين من شدة في معاملة الزنادقة ودعاة المذاهب الباطنية، ومقتل الشاعرين بشار بن برد وصالح بن عبدالقدوس لاتهامهما بالزندقة في زمن المهدي شاهد على مانقول،
والعودة الى شعره قبل هذا كله تنفي عنه هذه التهمة فهو خال من الدعوات المذهبية، والهرطقات بكل صورها واشكالها فقد وقف الرجل الجزء الاكبر من شعره على الدعوة الى الزهد ومكارم الاخلاق حتى اضحت هذه الدعوة انموذجا للشعر الدينى يحتذى به في الادب العربي كله.اما الحديث عن الجوهرين المتضادين اللذين آمن بهما الشاعر فيما يزعم الزاعمون مستشهدين بقوله:
لكل انسان طبيعتان........ خير وشر هما ضدان
الخير والشر بها ازواج....... لذا نتاج وذا نتــ‎اج

فيرده امكان تأوبل البيتين دون عسر ومشقه، فالشاعر يقول ان الخير والشر طبيعتان مركبتان في النفوس الانسانية، وانهما ازواج متقابلة كالسالب والموجب وان صنائع الخير تنتج الخير، وصنائع الشر تنتج الشر، وليس في رأيه ما يخالف المعروف من طبائع النفس الانسانية، والامر لا يحتاج الى تعسف اولئك الذين ردوا اصول البيتين الى جذور مانوية، زاعمين ان الشاعر يشير الى الهي النور والظلمة عند المذاهب المانوية.

اما التذبذب بين المذاهب الدينية فتهمة لا دليل عليها من حياة الشاعر او من شعره، فهو اتهام بلا برهان يعول عليه للتشكيك في عقيدة شاعر كأبي العتاهية، والاصح ان يقال عنه انه كان اقرب الى فهم عامة الناس في موضوع العقيدة، فلم يكن من علماء الدين المبرزين او المتكلمين الجدلين عن وعي ومعرفة عميقة او اولئك الذين تمرسوا في فهم العقائد الدينية ودلالاتها حبا في الجدل ورغبة في جلب الانصار والاعوان وحسبك دلالة على جهله بهذه العقائد مناقشاته مع ثمامة بن اشرس وبشر المريسي فقد افحماه واسكتاه بما لا يحسن نقله هنا، ولهذا الجهل بالعقائد الدينية شواهد من شعره تتمثل في مثل قوله:
شهدنا لك اللهم ان لست محدثا.......... ولكنك المولى ولست بمجحود
وانك معروف ولست بموصوف.......... وانك موجود ولست بمحدود
وانك رب لا تزال ولم تـــزل.............. قريبا بعيدا غائبا غير مفقـود
فالله سبحانه لا يوصف بأنه غير موصوف فقد وصف الله نفسه بما يليق بعظمته وجلاله في اكثر من اية في كتابه الكريم، ولكن جهل ابي العتاهية ورغبته في التعالم اورده هذا المورد السقيم، ومثلها قوله:
إن المليك رآك احسن خلقه ورأى جمالـك
فحذا بقدرة نفسه حور الجنان على مثالك
فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء ولا يحتاج الى مثال يحتذيه، ولكنه خيال شاعر قد شطح فكان هذا التجاوز السخيف، غير ان مثل هذه الابيات قليلة جدا في ديوانه ولقد قال ابو العتاهيه:
من حقق الايمان في قلبه اوشك ما يظهر تحقيقه

ولا نعلم تحقيقا ان كان الرجل قد حقق الايمان في قلبه ام لا فذلك في علم الله وحده لكن سيرته لم تكن بأي حال من الاحوال سيرة الملحد الزنديق، او المتشكك في دينه، بل كان على ما يروى من شعرة مذكرا بالله داعيا الى مكارم الاخلاق وحسبنا منه هذه الدعوة دونما حاجة الى تشكيك يفسد الحقيقة ولا يأتي باليقين.

ومن العجب أن يتقول البعض عليه دون أن يكلف نفسه عناء النظر الفاحص إلى شعره ولا حتى مطالعة ما كتب عنه الثقات من أدباء عصره .
ولو فعل البعض ذلك وتريث في إصدار الحكم عليه لوجده بخلاف بقية الشعراء ، يتزي بزي الفقراء ، ويتغنى بأناشيد الزهد ، ويهجر الخلفاء ، ويمتنع عن قول الغزل فيسجن ويعذب من أجل أن يعود إلى الغزل، لكنه يأبى ذلك إلى أن يموت ، فهل ثمة شاعر آخر فعل ما فعل هو .. ؟