ولد بول كلي بـ 18 ديسمبر سنة 1879 في قرية مونش، من أم سويسرية وأب ألماني، نشأ ببرن في سويسرا.
تندرج لوحات هذا الفنان ضمن قراءة تشكيلية احتوت أشكال تجريدية ينبعث منها حسّ فكري نتاجه اللاوعي الراسخ لديه فيجعل مضمون أعماله متأسسة على نمطية فكرية امتاز بتجسيدها واختصت بها لوحاته التي تميّزت بإبراز الأشكال المرئية واللامرئية.


كانت لوحات الفنان متحررّة عن الأشكال الواقعية التي اتخذها مذهبا في لوحاته الاستشراقية التي قام بها في كلّ من مصر وتونس. إنّ جلّ أعمال "كلي" تميّزت ببناها المعمارية المتوزّعة في أنحاء الشكل وكان يحاول المحافظة على سمة التوازن في توزيع التكوينات المعمارية، فهي لم تكن كثيفة جدّا في زوايا اللوحة بينما تخلو بقيّة أرجائها، وقد حاول "بول كلي" الجمع بين هذه البنى المعمارية بشكل فني مدروس بعمق لتبرز أمام المتلقي وكأنّها بنيان واحد محاولا إيجاد نوعية من أنواع الإيقاع الموزّع والذي يتنقل عبر الخطوط العمودية والأفقية فخلق هذا التوزيع نمطا إيقاعيا حركيا يستهدف عين المشاهد وتجعلها تتنقل من كتلة إلى حجم من نقطة إلى خط. إنّ المتلقي البارع المقبل والمواكب لمسيرة الفنون وتطوّراتها وما انجرّ عنها من ممارسات إضافية وإبداعات فنية له إمكانية كشف المضامين الجمالية والتعبيرية الفكرية التي يريد الفنان طرحها داخل أعماله.
لا تخلو أعمال هذا الفنان في مضامينه الفكرية والتعبيرية الحسيّة فاستعماله للون ليس بوصفه قيمة ضوئية فحسب داخل إطار اللوحة بل هي عبارة عن كتل لونية وخامات مجتمعة ومنصهرة داخلها لتبرز إحساس الفنان وانفعالاته إذ أنّنا نلاحظ في بعض الأحيان بأنّ اللون المستعمل داخل العمل يكون في بعض الأحيان اعتباطيا ويمثل ربّما دلالات نفسية داخلية ووجودية فتبرز لنا أعماله تجريدية تعبيرية تطغى فيها صفة التمويه وتتلاشى داخلها الأبعاد الجمالية في صلب اللوحة، أمّا في جانب آخر من اللوحات برزت صفة أخرى وهي البعد التشكيلي التجريدي تظهر حسب كلّ لوحة وما تشتمل عليه من نسب وأبعاد.
لوحة "القط والعصفور" أنجزت سنة 1928 استخدم الألوان الزيتية والحبر كتقنية لرسمها، اعتمد فيها الفنان الألوان الحارة والمتدرجة مثل الأحمر والأصفر وابتعد بذلك عن المساحات اللونية التي تطغى عليها صفة الرّماديات الملونة إذ أنّ هذا الفنان كان يركّز اهتمامه على قيمة الدرجات اللونية ويرجعها إلى جانبه النفسي والتعبيري التقني للمادة والخامة اللونية.
المادة اللونية نظمت وأطّرت فضاء وزمنية اللوحة، تكوينها وانسجامها، حركتها وإيقاعها، تناقضاتها وتوتراتها اللونية جاءت لترتكز على تكوينه .. بصرية تتآلف مع الموسيقى التي جسّدها في صورة "العصفور" وهو شيء ليس بالغريب "فبول كلي" يحاول دائما أن يسترجع ذاكرته وموروثه الموسيقي عبر الإحالة إليه برمز أو بتجسيد بسيط في الشكل عميق في المعنى داخل الإطار. يدرك المشاهد في هذه الإيحاءات دلالات وقيم جمالية وتعبيرية هامة تخضع اللوحة إلى رمزية العمل الفني وللقراءة المثالية التي كوّنت شيئا مرئيا خفيّا يختبئ وراء الصورة الظاهرية.

"بول كلي" فنان تميّز بالموهبة وقد استطاع تشكيل لوحاته بأسلوب ذو بعد حركي وذاتي تميّز بقوّة في التعبير فأعماله يمكن أن تقسّم إلى أزمنة لونية، فقد اهتم منذ بداياته الفنية بالألوان كظاهرة نظرية نفسية مكتشفا وقت لاحق أنّ لها تأثيرا على الروح إذ أنّه يقول"لقد تملكتني الألوان(...) في أن واللون شيء واحد..." كلمات ردّدها وأرّخها الفنان في مذكراته اليومية حين زار تونس أحد أهمّ المحطات الفنية في حياته.
لكلّ عمل من أعمال "كلي" نسبه ومقاييسه، أبعاده وأشكاله العامة، فكلّ ما تحتويه اللوحة من عناصر تمثل موضوعا يحتوي على مفردات تشكيلية نتمكن من النظر إليها واستكشافها سواء كان بشرا أو حيوانات أو أحجام فقد أدركنا من خلال أعماله بأنّنا أمام مذكرات هذا الفنان، لوحات روائية ننظر إليها من جوانب عدّة فنلاحظ أنّ قيمة الزمان والمكان ظرفية متحوّلة إلاّ أنّها تسلسل باتحاد الأفكار والشكل البناني المسترسل.
تصل لوحات هذا الفنان إلى ذروتها لتتحّد مع حدود اللوحة فبعض لوحاته تغيب فيها صفة العمق وتكاد تكون مسطحة بينما يخالف بأعمال أخرى إذ أنّه يحدث البعد، كما أنّه يركز في إبراز أحجام في شكلها الطبيعي فتتجلى أعماله وتخاطب وتخاطب عين وعقل المشاهد فتترك له حرية التفكير والانبهار والاستمتاع في الوقت ذاته.
للألوان قيمتها ووزنها في الأعمال الفنية، فالألوان والخامات لها دور هام في حياتنا، وميزته أنّه قيمة تعبيرية، ولكلّ لون وقع خاص ينسجم مع أشكاله التي يمثلها فهو يؤدي تعبيرا مضاعفا، فالألوان والأشكال هما عاملان يكمّلان ويتأثران ببعضها البعض، فهما في صلة مع كلّ ما هو حسي ومرئي من ناحية وكلّ ما هو حركي وساكن من ناحية أخرى فيرتبط بالتفكير والإحساس حتى يكون عناصر اللوحة.
لوحة "زهور على الصخر" عمل تميّز بمسحة واضحة في التجسيد حجمها 90X70 سم نفذت على قماش الأكياس، لتظهر الخطوط القرافيكية بسيطة توحي بنسيج منصهر مع الكتل اللونية المتداخلة بأسلوب جمالي أبرز " كلي" موهبته في رسمه لمشهد انطباعي فقد كانت الأزهار تتجلى بحركية داخل الفضاء وكعادته استعمل كتلا ضوئية لتضفي على الجوّ العام صفة راحة نفسية لدى المشاهد، كما أنّه استعمل اللون الأسود ليعطي المكان صفة الهدوء بالمساحات اللونية والعمق بالخطوط السوداء، يبدو المشهد متخيّلا في وقت من الأوقات إلاّ أنّه يحمل في مضامينه عشقا للطبيعة الحالمة عبر التدرّجات اللونية، فجلّ أعماله تطغى بها البساطة المقصودة فيخيّم على هذه الأعمال البعد الصوفي التجريدي كما يراها ويصفها البعض بأنّ بها تدرّجات لونية ذات بعد رومانسي وبارد.

أخيرا أريد أن أصنّف "بول كلي" ضمن فناني جيل عبقري استطاع بما له من طاقة داخلية أن يجسّها في أعمال برزت للمشاهد فأفرزت علاقة بين معرفة الفنان الفردية وبصمة الفن الحديث.

الفنان التشكيلي بول كلي paul_klee1.jpg


الفنان التشكيلي بول كلي paul_klee2.jpg
منقول