الصفارين اقدم اسواق العالم يندثر do.php?img=70


في ركن بعيد بالكاد تسمع فيه صوت الطرق يتخذ حسين الصفار اخر من تبقى من سلالة حرفيي الصفارين زاوية في محله الصغير في السوق التي كانت تضج بإيقاعات أصوات المطارق ويستمر العمل فيها حتى ساعات متأخرة من الليل.
اربعون عاما امضاها الرجل الخمسيني في سوق الصفارين قبل ان يلفها الصمت ويخيم عليها الكساد والاهمال، بعد ان خفتت المطارق وسكنت الازاميل وهجرت العوائل مهنتها العتيدة التي منحتهم القابا مازالوا يحتفظون بها رمزا لوجاهة اهم حرفة عرفها البغداديون انذاك ولاقدم سوق تراثية في العالم انشئت بموازاة اولى جامعات العالم المدرسة المستنصرية.
الصفار الوحيد
لغاية اليوم تحتفظ السوق باسمها بيد انه لا شيء يوحي بهذا الاسم سوى بضعة محال صغيرة يتوسطها رجال كانوا يوما يمسكون المطارق والازاميل لينحتوا اجمل الهدايا النحاسية التي تجذب الباحثين عن الدهشة والجمال بينما تنتشر محال متنوعة اغلبها تعنى "بالطباخات" المتنوعة ومعداتها وبالمدافئ الحديثة والقديمة فضلا عن محال لبيع المواد البلاستيكية.
يروي حسين الصفار وهو الصفار الوحيد في السوق والذي تحول الى مصلح للقدور والهدايا القديمة وبعض المنتجات النحاسية التي يحتاج اليها الناس، صورا عن سوق احتلت مكانتها في مخيلته منذ نعومة أظفاره اذ كانت السوق اكبر اسواق بغداد وترتبط حدودها مع سوق الوراقين "السراي" وكيف ان السيارات التي تأتي من خارج البلاد تتوقف في ساحة الرصافي اليوم التي كانت محطة للقادمين الى بغداد، ويهرع الفتيان لاستقبال الضيوف الاجانب والتجوال برفقتهم في السوق حيث يقتنون منها الاواني المزخرفة والهدايا المختلفة التي تصنعها امهر ايادي الصفارين. ويؤكد اخر الصفارين انه حتى مطلع الخمسينات كانت نساء بغداد يتسوقن تجهيزات الاعراس من سوق الصفارين حيث تأتي النساء حاملات مايطلق عليه الواقية فوق رؤوسهن ويتجهزن بمتطلبات العرس من قدور واواني الطبخ واباريق الماء وغيرها من الادوات التي كان جميع الناس يعتمدون على منتجاتها حتى عام 1953 عندما منعت وزارة الصحة في ذلك العام الناس من استخدام اواني وقدور الطبخ النحاسية خاصة بعد ظهور الالمنيوم والفافون.

شيراك وغاندي
ويقول حسين مع ذلك لم تفقد السوق اهميتها ولم يهجر اسطواتها مهنتهم التي كانوا يحرصون على توريثها لابنائهم جيلاً بعد جيل، اذ ظلت وجهة للسواح والعراقيين على حد سواء، تنتج اجمل الهدايا النحاسية المنقوشة بجمال اخاذ، واستمر صوت المطارق فيها حتى ان كتيبة الخيالة كانت تجوب السوق لترويض الخيول وتعليمها على سماع ضجيج الاصوات المرتفعة الذي تجلبه ضربات مطارق الصفارين وهي تطوع النحاس لتشكل منه تحفا جميلة.
ولم يغب عن باله كيف ان ضيوف بغداد من الاجانب كانوا يتجولون في السوق وينبهرون بمعروضاتها ويقتنون مايعجبهم من التحف والهدايا.
ويذكر ان رئيسة وزراء الهند انديرا غاندي قد زارت السوق وتجولت فيها واقتنت بعض الهدايا، كما زارها العديد من الرؤساء لعل من اشهرهم الرئيس الفرنسي الاسبق جاك شيراك وغيره من الشخصيات السياسية والفنية والادبية العربية والعالمية.
وكغيره من الصفارين اليوم فان حسين الصفار وهو اب لاربعة اولاد لم يورث اي منهم مهنته كما جرت العادة لكنه مازال يحتفظ بمحله ومهنته التي كسدت بضاعتها وتركها الزمن فريسة للاهمال والظروف القاسية، فيما انخرط اولاده في مهن مختلفة.

سر المهنة
وحتى مطلع التسعينات فان سوق الصفارين كانت واحدة من أشهر الأسواق التراثية في بغداد واجملها، حيث كان الزائر لهذه السوق يشعر بعبق الماضي الجميل في كل زواياها، وتحكي ضربات المطارق الحديدية (الدكات) على النحاس أو مادة (الصفر) كما تسمى بالعامية، قصة من القصص المشوقة.
ويشعر حسين بحسرة والم من انحسار السوق وهجرة اسطواتها وعدم رغبة الشباب في تعلم مهنة "الصفارة"، التي كانت سرا لايعطى بسهولة، وتمنى لو ان الجهات المعنية في امانة بغداد ووزارتي السياحة والتعليم التفتت الى السوق العتيدة واعادت لها مكانتها التي خسرتها بين اسواق العالم التراثية من خلال تملك محالها وابقائها لمهنة الصفارين وتعليم الشباب في المعاهد على هذه المهنة العراقية بإمتياز.

إهمال السوق
وكانت السوق لسنوات طويلة وجهة للسياح العرب والأجانب لاقتناء أعمال تجسد حضارات وادي الرافدين المتعاقبة وإبداع وجمال الصناعة المحلية العراقية.
وأشار المتحدث باسم أمانة بغداد حكيم عبد الزهرة إلى أن الأوضاع الأمنية غير المستقرة في العراق، دفعت الحكومة إلى تخصيص الأموال للوزارات الأمنية للحفاظ على الأماكن التراثية ومن بينها سوق الصفارين.

مستقبل مجهول
ويتابع حسين الصفار بحسرة: انه سيبقى على مهنته التي لا يستطيع هجرها، ويؤكد ان ورثة الصفارين باعوا معظم محال السوق لإشخاص لاعلاقة لهم بالمهنة، ويعتقد ان مستقبل السوق بات مجهولا وربما يختفي من خارطة بغداد وتراثها سيما ان لا احد يريد المحافظة عليها كما حافظ المصريون على سوق "خان الخليلي" التي ماتزال تجتذب السواح مع ان تاريخها لايقارن بتاريخ سوق الصفارين وشهرتها آنذاك.